المادة    
يقول: (فالحاصل أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حالة إفراد أحدهما عن الآخر) فإذا اقترنا دل كل منهما على معنى، وهذا معنى قولهم: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. أي: في حالة الإفراد يتضمن كل منهما معنى الآخر.
قال: (فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى) فانظر إلى كلمة الشهادة -أي الفرق بين حالة الاقتران وحالة الانفراد-، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله )، فلو قالوا: لا إله إلا الله، وأنكروا الرسالة؛ هل كانوا يستحقون العصمة، وتحفظ دماؤهم وأموالهم؟! لا، إذاً فالمراد من ذلك هما الشطران معاً، فالشطر الأول: شهادة أن لا إله الله، والشطر الثاني: شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا قيل: لا بد أن تشهد: أن لا إله الله؛ فإنه يدخل في ذلك الشهادة بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا لو قيل: لا بد أن تشهد أن محمداً رسول الله، أو قيل للرجل: لا بد أن تؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فمعنى ذلك قطعاً أنه لا بد أن يؤمن أنه لا إله إلا الله، فهما متلازمان.
إذاً فلو قالوا: لا إله إلا الله، وأنكروا الرسالة لم يكونوا يستحقون العصمة، فلا بد أن يقولوا: لا إله إلا الله ويكونوا قائمين بحقها، ولا يكون قائماً بحق لا إله إلا الله حق القيام إلا من صدق بالرسالة.
قال: وكذا من شهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: لا يكون قائماً بهذه الشهادة حق القيام إلا من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، فتضمنت التوحيد -أي: الكلمة-، وإذا ضمت شهادة أن لا إله إلا الله إلى شهادة: أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المراد من شهادة: أن لا إله إلا الله إثبات التوحيد، ومن شهادة: أن محمداً رسول الله: إثبات الرسالة.
فإذا أقر العبد بتوحيد الله، وبرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء بالإيمان والدين كله، لكن لو أفردت إحداهما فلا بد أن تدخل فيها الأخرى، وحالة الاقتران كما في الأذان وغيره لا شك أنها أفضل وأشمل؛ لأنه يندرج فيها الدين كله؛ لأن أصل الدين وقاعدته هما أمران: ألا يعبد إلا الله، وألا يعبد الله إلا بما شرع رسول الله.
قال: (فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد، وكذلك الإسلام والإيمان، فلا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لم لا إيمان له؛ إذ لا يخلو المؤمن من إسلام يتحقق به إيمانه) وهذه قاعدة عظيمة، ولهذا قلنا: لو أن عبداً قال: أنا مسلم؛ ولم يأت من الأعمال بشيء: لا صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولم يعمل أي عمل من أعمال الإيمان، فهذا لا يكون أبداً مؤمناً.
فمثلاً إنسان يعيش بين المسلمين، ويسمع الأذان، ويرى المساجد، ويرى الصلاة، ويرى الناس يعملون الخير؛ فلم يعمل أي عمل من أعمال الإيمان أبداً، ولا أتى بأي شعيرة من شعائر الإسلام أبداً؛ إلا أن اسمه عبد الله، أو عبد الرحمن، أو عبد الكريم… إلخ فقط، ويقول: أنا مسلم؛ فهذا لا يكون مؤمناً، والحالة الوحيدة المستثناة هنا -ونذكرها حتى لا يختل هذا الأصل- حالة قوم في آخر الزمان عندما يرفع الدين، ويرفع العلم حتى لا يدرى ما صلاة، وما زكاة، وما صيام، كما في حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه، ولا يبقى لهم إلا هذا، فيقولون: [أدركنا الرجل الكبير، والمرأة العجوز يقولان: لا إله إلا الله، فنحن نقولها، قال: صلة بن الأشيم رحمه الله لـحذيفة: وما تغني عنهم لا إله إلا الله؟!] وهذا من فقه التابعين وفقه السلف، يعني: ما دام أنه لا صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة فما تغني عنهم؟ فكان معلوم عندهم أن هذه الكلمة الواحدة لا تنفع إلا بهذه.
فقال حذيفة : [تنجيهم من النار]؛ لأنهم إنما بلغهم من الدين أنهم أدركوا الرجل الكبير، والمرأة العجوز يقولان: لا إله إلا الله، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يكلف هؤلاء بأن يؤدوا الأركان وهي لم تبلغهم، ولم يسمعوا عنها، ولا يمكن ذلك، فلا يقاس على هذه الحالة حالة رجل بين المسلمين؛ والقرآن بين يديه، والأذان يرفع، والناس يقبلون على طاعة الله، ويرى كل هذا، ثم يترك الصلاة، ويترك الزكاة والصيام والحج وكل الأعمال الإيمانية، ثم يقال عنه: إنه لم يخرج من الإيمان، إنه مجرد عاص، ومجرد مرتكب كبيرة وإنه يمكن أن ينجو من النار؛ لأنه مثل الذين قال فيهم حذيفة : [تنجيهم من النار]!!
فلماذا نجعل هذا كهذا، فالحال مختلف تماماً، وعدل الله تبارك وتعالى ورحمته وحكمته تأبى ذلك، فمن رحمته عز وجل أنه جعل أولئك السابقون ينجون، ولذلك من كان قبل فرض الصلاة والصيام في أول الإسلام، فقد كان المطلوب هو شهادة أن لا إله الله فقط، وهذه الأحكام لم تبلغهم، فمن مات منهم قبل شرع الفرائض لا يكون مطالباً بها؛ لأنها لم تنزل في ذلك الوقت، فكذلك من لم تبلغه أصلاً لا يطالب إلا بما بلغه، فهذه حالة خاصة ولا تقاس عليها الحالات العادية.
وأسوأ شيء في هذا الباب: أن يظن بعض الناس أن القول بتكفير تارك الصلاة، وتارك أعمال الإيمان كلها من أقوال الخوارج ، أو مثل قول الخوارج ، وهذا قول خطأ جداً؛ لأن القول بالتكفير إجماع من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ حيث كانوا لا يرون شيئاً تركه كفر سوى الصلاة، وهم الذين يقتدى بهم، وهم أهل الإجماع حقاً، فحقيقة الإجماع لا تنطبق على أي جيل كانطباقها في عهد الصحابة، ولهذا قال بعض العلماء: لا إجماع إلا إجماعهم، وأما بعد ذلك فقد تفرقت المذاهب والعلماء والأحاديث في البلدان. فالإجماع هو إجماعهم.
ولنا أن نتصور خطأ وبطلان قول من يقول: إن تارك الصلاة تركاً مستديماً مطلقاً غير كافر- هذه الحالة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو وجد في عهده صلى الله عليه وسلم أناس في المدينة أو في أطرافها ممن حولها من الأعراب لا يصلون، ولا يصومون، ولا يحجون، ولا يزكون، ولا يعملون أي عمل، ويقولون: بلغنا أن هذا الرجل قد خرج ونحن نقول: إنه صادق ونحن نقول أننا مسلمون، وأسماؤنا عبد الله، ومحمد .. إلى آخره، فهل كان يقبل منهم هذا الكلام، ويقرون على أنهم مسلمون؟ لا يمكن أبداً؛ لأن الذين يقومون بالفرائض وهم غير مؤمنين، وغير منقادين؛ وهم المنافقون قد أنزل الله تعالى فيهم ما أنزل، ولم يقبل منهم إلا الصدق والانقياد الكامل، والإخلاص لله سبحانه وتعالى، فكيف بهؤلاء الذين لم يعملوا من الأعمال أي عمل إلا دعوى مجردة، فلا يمكن أن يكونوا مسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الصحابة، فكذلك يجب أن يكون الحكم اليوم.
إذاً: فلا يخلو المؤمن من إسلام به يصح إيمانه، وأدنى ذلك: أن يؤدي الصلوات الخمس، ولا يخلو المسلم من إيمان يصح به إسلامه؛ وإلا كان منافقاً؛ لأن مجرد إتيانه بالعمل الظاهر لا يخرجه من المنافقين إلا بإيمان خالص وصادق في القلب.